Slaati
الدكتور خالد الحبشان

من الرقابة التقليدية إلى الذكاء المؤسسي: رؤية نحو منصة وطنية للحوكمة والكفاءة الإدارية في المملكة

منذ 6 ساعة01334

مشاركة

يشهد العالم اليوم تحولًا عميقًا في مفهوم الرقابة والإدارة، فالممارسات التقليدية التي كانت تعتمد على التفتيش اللاحق وجمع التقارير بعد وقوع الخطأ، لم تعد قادرة على مجاراة تعقيد المؤسسات الحديثة. لقد أصبح العالم يُدار بالبيانات والتحليل الفوري، وأصبحت الرقابة الذكية ضرورة لا ترفًا، إذ تمكّن الحكومات من استباق الأخطاء قبل وقوعها، والتعامل مع الخلل قبل أن يتحول إلى أزمة.

وفي سياق التحول الرقمي الذي تعيشه المملكة ضمن رؤية السعودية 2030، تبرز الحاجة إلى نموذج رقابي جديد أكثر عمقًا واتساعًا، يُعيد تعريف مفهوم الحوكمة والكفاءة الإدارية، ويربط بين التقنية والإدارة في منظومة واحدة. فليس الهدف اليوم مجرد مكافحة الفساد بعد وقوعه، بل بناء نظام ذكي يمنع حدوثه ابتداءً، ويضمن كفاءة الموارد وعدالة الإجراءات.

تحقق المملكة في السنوات الأخيرة تقدمًا واضحًا في مؤشرات الشفافية الدولية، إذ جاءت في المرتبة الثامنة والثلاثين عالميًا في تقرير 2024، وهو إنجاز يعكس نضج التجربة الرقابية وفاعلية أدواتها. غير أن الطموح الوطني لا يتوقف عند تحسين الترتيب، بل يتجاوز ذلك نحو بناء منظومة رقابية متكاملة تستند إلى الذكاء المؤسسي، بحيث تتحول الرقابة من رد فعل إلى فعل استباقي، ومن جهة منفذة إلى عقل محلل وموجه.

وهنا تتجلى فكرة إنشاء منصة وطنية للذكاء المؤسسي، تعمل كعقل رقابي تحليلي متصل بجميع الجهات الحكومية وشبه الحكومية ذات الصلة بالقطاع العام. هذه المنصة لا تكتفي بجمع البيانات، بل تقوم بتحليلها وتصميم هياكل إدارية وتنظيمية جديدة لكل جهة، تتوافق مع طبيعة عملها ولوائحها التنظيمية، وتقدم في الوقت ذاته سياسات وإجراءات تشغيلية محددة تسهم في توحيد الأداء ورفع كفاءة التنفيذ.

المنصة تبدأ عملها بتحليل شامل للجهة المعنية، عبر جمع بياناتها من أنظمة الموارد البشرية والمالية والتشغيلية، وربطها بالتشريعات والأنظمة السارية. ثم يستخدم الذكاء الاصطناعي نماذج تحليلية لتحديد مواطن الضعف الإداري أو المالي، واقتراح الهيكل الأمثل الذي يضمن التوازن بين الكفاءة والمساءلة. هذه العملية تنقل المؤسسات من العشوائية التنظيمية إلى هندسة إدارية دقيقة، تُعيد توزيع الأدوار وتوضح خطوط الاتصال وتحدّ من التداخل والازدواجية.

ولا يتوقف الأمر عند ذلك؛ فالمنصة قادرة على إنشاء سياسات وإجراءات تشغيلية مخصصة لكل إدارة داخل الجهة، من الموارد البشرية إلى الشؤون المالية وإدارة العمليات وتقنية المعلومات والمخاطر. هذه السياسات لا تُكتب يدويًا، بل تُنشأ رقميًا وفق أفضل الممارسات العالمية ومعايير الحوكمة، مما يختصر الوقت ويضمن التوافق القانوني والإجرائي.

لكن جوهر التميز في هذا المشروع يكمن في الرقابة اللحظية. فالنظام لا ينتظر التقارير الدورية، بل يراقب الأداء في الزمن الحقيقي، يلتقط الانحرافات فور حدوثها، ويُصدر تنبيهات وتصحيحات تلقائية. فإذا ظهرت زيادة غير مبررة في المصروفات، أو تأخر في إنجاز المعاملات، أو انحراف في مسار العقود، فإن المنصة تُخطر الجهة المعنية مباشرة، مرفقة بالتحليل والاقتراح. وهكذا تتحول الرقابة إلى جزء من منظومة التشغيل نفسها، لا إلى سلطة خارجية تتدخل بعد فوات الأوان.

بهذا الشكل تتجسد الرقابة الاستباقية، ويُعاد تعريف مفهوم النزاهة ليصبح ممارسة يومية مدمجة في آليات العمل. فكل معاملة مالية أو إدارية تمر عبر النظام تُسجل وتُحلل، مما يجعل الفساد أو سوء الإدارة أمرًا صعب الحدوث، بل غير قابل للاستمرار إن حدث.

الأثر الاقتصادي لهذا التحول سيكون عميقًا. فبحسب التقديرات التحليلية، يمكن أن يؤدي تطبيق المنصة إلى خفض التكاليف الإدارية بنسبة تصل إلى 30%، ورفع كفاءة التشغيل بما يقارب 40% عبر إعادة توزيع الموارد وتوحيد الإجراءات. كما يقل الاعتماد على الاستشارات الخارجية المكلفة، لأن النظام نفسه يقدم تقارير وتحليلات ذكية قابلة للتطبيق الفوري.

وعلى المستوى الوطني، فإن هذه المنصة ستربط بين الجهات الحكومية ومصادر البيانات الرئيسة مثل وزارة المالية ومنصة “اعتماد” وهيئة الرقابة ومكافحة الفساد. وستراقب عمليات الطرح والترسية والتحليل الفني، وتتأكد من نزاهة وسلامة الإجراءات، تمامًا كما تراقب هيئة السوق المالية أداء الشركات المدرجة في السوق السعودي. هذا الربط بين الرقابة المالية والإدارية والتقنية سيخلق نظامًا متكاملًا شبيهًا بـ”سوق الشفافية الحكومية”، حيث تُرصد كل المعاملات وتُقاس مؤشرات الأداء لحظيًا، مما يقلل فرص الخطأ أو التحايل إلى أدنى مستوى ممكن.

وليس الهدف من ذلك أن تحل الآلة محل الإنسان، بل أن تمنح الإنسان أداة رؤية أعمق واتخاذ قرار أكثر وعيًا. فالقادة الإداريون سيصبحون قادرين على الاطلاع على لوحات أداء آنية تعرض معدلات الإنجاز، ونسب المخاطر، ومستويات الالتزام، بما يتيح قرارات دقيقة وسريعة تستند إلى البيانات لا الانطباعات. هذه هي الإدارة الحديثة التي تتحدث عنها رؤية 2030: حكومة فعالة وشفافة، تقودها المعلومة وتُدار بالكفاءة.

التحول نحو الذكاء المؤسسي لا يخلق فقط بيئة عمل أكثر كفاءة، بل يرسخ ثقافة جديدة في القطاع العام؛ ثقافة المساءلة الإيجابية التي ترى في الرقابة وسيلة تطوير لا أداة عقاب. فحين يدرك الموظف أن النظام يقيس أداءه بعدالة، تتعزز الثقة الداخلية ويزداد الالتزام بمعايير الجودة. كما أن المواطن والمستثمر سيشعران بمزيد من الاطمئنان حين يريان أن كل قرار وكل إنفاق يخضع لمراقبة علمية شفافة، مما يعزز ثقة المجتمع في مؤسساته ويرفع جاذبية الاقتصاد الوطني.

ومن المنظور الدولي، فإن وجود نظام رقابي ذكي متكامل سيمنح المملكة دفعة قوية في مؤشرات إدراك الفساد الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية. فالمؤشر لا يقيس فقط حجم المخالفات، بل قدرة الدولة على إدارتها ومنعها. وعندما تمتلك الدولة منظومة رقمية تتبع كل عملية حكومية لحظيًا، فإنها ترسل للعالم رسالة واضحة: النزاهة لدينا ليست شعارًا، بل نظام عمل مؤسسي مستدام.

إن الذكاء المؤسسي لا يعني استبدال الإنسان بالآلة، بل بناء شراكة بين الخبرة البشرية والدقة التقنية، بحيث تُصبح البيانات هي اللغة المشتركة للإدارة والحوكمة. إنه ليس مشروعًا رقميًا فقط، بل تحول فكري في كيفية إدارة الدولة لمواردها ومؤسساتها.

وحين تتكامل هذه الرؤية مع روح التحول الوطني، فإن المملكة تُثبت مجددًا أنها لا تلاحق المستقبل، بل تصنعه. فهي لا تكتفي بتبني التقنية، بل تُسخّرها في خدمة الحوكمة، وتحوّل الرقابة إلى قيمة إنتاجية تضيف إلى الاقتصاد، وتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى ركيزة من ركائز الشفافية.

في النهاية، يمكن القول إن الانتقال من الرقابة التقليدية إلى الذكاء المؤسسي هو قفزة فكرية وإدارية تُعيد تعريف مفهوم الدولة الحديثة. فالدولة القادرة على التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها، وضبط الإنفاق قبل تجاوزه، ومكافأة الكفاءة قبل أن تُطالب بها، هي الدولة التي تستحق أن تكون في صدارة العالم في الكفاءة والنزاهة والحوكمة.

وهذا هو الطريق الذي تسير فيه المملكة بثقة ووعي، من الرقابة الورقية إلى الرقابة الذكية، من البيروقراطية إلى الشفافية، ومن الإدارة التفاعلية إلى الإدارة الاستباقية — نحو دولة تُدار بالبيانات والمعرفة، وتُقاس كفاءتها بالذكاء المؤسسي لا بالأحكام التقديرية.



التعليقات ()

مشاركة

أخر الأخبار

c594c167-5841-4a6d-82af-6a5afab783e2.jpg
أمير الرياض يرعى حفل اختتام اللقاء الثامن عشر لمؤسسي مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة..صور
الرياض
منذ 5 دقيقة
0
1340
التعاون يعلن إصابة موسى بارو
التعاون يعلن إصابة موسى بارو
الرياض
منذ 20 دقيقة
0
1390
b434f606-6e43-4491-baba-4d2b0f68087f.jpg
الدحيل يقسو على شباب الأهلي برباعية
الرياض
منذ 23 دقيقة
0
1405
96576e63-1b9c-4ec7-8778-49789de9aa25.jpg
بعد الجدل حول فارق السن.. نجم تركيا الشهير يغير مظهره
أنقرة
منذ 23 دقيقة
0
1405
c040f423-08e1-458c-a1b5-7e8157e0d472.jpg
القيادة تهنئ رئيس كوت ديفوار بإعادة انتخابه لولاية جديدة
الرياض
منذ 30 دقيقة
0
1410
إعلان
مساحة إعلانية